كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



في سورة الأنعام: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 143، 144].
أراد: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ} [الأنعام: 141]، وأنشأ لكم {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} يعني: كبارا وصغارا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} [الأنعام: 142]، أي: لا تقفوا أثره فيما يحرّم عليكم مما لم يحرّمه اللّه، ويحلّه لكم مما حرّمه اللّه عليكم.
ثم قال: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ}، أي: كلوا مما رزقكم اللّه ثمانية أزواج. وإن شئت جعلته منصوبا بالرّدّ إلى الحمولة الفرش تبيينا لها. والثمانية الأزواج: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر. وإنما جعلها ثمانية وهي أربعة، لأنه أراد: ذكرا وأنثى من كل صنف، فالذكر زوج، والأنثى زوج، والزوج يقع على الواحد والاثنين. ألا ترى أنك تقول للرجل: زوج، وهو واحد، وللمرأة: زوج، وهي واحدة؟ قال اللّه تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45)} [النجم: 45].
وكانوا يقولون: ما في بطون الأنعام حلال لذكورنا ونسائنا، إن كان الجنين ذكرا، ومحرّم على إناثنا إن كان أنثى. ويحرّمون على الرجال والنساء الوصيلة وأخاها، ويزعمون أن اللّه حرّم ذلك عليهم. فقال اللّه سبحانه: {ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103].
وقال يقايسهم في تحريم ما حرّموا: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ} من الضأن والمعز {حَرَّمَ} اللّه عليكم {أَمِ الْأُنْثَيَيْن}؟، فإن كان التحريم من جهة الذكرين: فكل ذكر حرام عليكم، وإن كان التحريم من جهة الأنثيين: فكل أنثى حرام عليكم، أَمِ حرّم عليكم {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ} من الأجنّة؟. فإن كان التحريم من جهة الاشتمال، فالأرحام تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فكل جنين حرام. {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا} أي حين أمراللّه بهذا فتكونون على يقين؟ أم تفترونه عليه وتختلقونه؟ توبيخ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 144].
في سورة التين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)} [التين: 4: 8].
يريد: عدّلنا خلقه، وقوّمناه أحسن تعديل وتقويم. {ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ} والسّافلون: هم الضعفاء والزّمنى الأطفال، ومن لا يستطيع حيلة، ولا يجد سبيلا. وتقول: سفل يسفل فهو سافل، وهم سافلون. كما تقول: علا يعلو فهو عال وهم عالون. وهو مثل قوله سبحانه: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70]. وأراد: أنّ الهرم يخرف ويهتز وينقص خلقه، ويضعف بصره وسمعه، وتقلّ حيلته، ويعجز عن عمل الصالحات، فيكون أسفل من هؤلاء جميعا.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} [الشعراء: 227] في وقت القوّة والقدرة، فإنّهم في حال الكبر غير منقوصين، لأنّا نعلم أنا لو لم نسلبهم القدرة والقوّة لم يكونوا ينقطعون عن عمل الصّالحات، فنحن نجري لهم أجر ذلك ولا نمنّه، أي لا نقطعه ولا ننقصه. وهو معنى قول المفسرين. ومثله قوله سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]، والخسر: النقصان. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 3] فإنهم غير منقوصين. ونحوه قول رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلم: «يقول اللّه للكرام الكاتبين: إذا مرض عبدي فاكتبوا له ما كان يعمل في صحته، حتى أعاقبه أو أقبضه». ثم قال: {فَما يُكَذِّبُكَ أيها الإنسان بِالدِّين}؟ أي: بمجازاتي إيّاك بعملك وأنا أحكم الحاكمين؟
في سورة والشمس وضحاها قوله سبحانه: {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)} [الشمس: 7: 10].
أقسم بالنفس وخلقه لها ثم قال: {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها}، أي: فهّمها أعمال البر وأعمال الفجور، حتى عرف ذلك الجاهل والعاقل، ثم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها} يريد أفلح من زكى نفسه، أي: أنماها وأعلاها بالطاعة والبرّ والصّدقة واصطناع المعروف. وأصل التزكية: الزّيادة، ومنه يقال: زكا الزرع يزكوا: إذا كثر ريعه، وزكت النّفقة: إذا بورك فيها، ومنه زكاة الرّجل عن ماله، لأنها تثمّر ماله وتنمّيه. وتزكية القاضي للشّاهد منه، لأنه يرفعه بالتّعديل والذّكر الجميل.
{وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها}، أي: نقصها وأخفاها بترك عمل البرّ، وبركوب المعاصي. والفاجر أبدا خفيّ المكان، زمر المروءة، غامض الشّخص، ناكس الرأس.
{ودسّاها}: من دسّست، فقلبت إحدى السيّنات ياء، كما يقال: لبّبت، والأصل لبّيت، و: قصّيت أظفاري، وأصله قصصت. ومثله كثير. فكأنّ النّطف بارتكاب الفواحش دسّ نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الرّبا وأيفاع الأرض، لتشتهر أماكنها للمعتفين، وتوقد النّيران في الليل للطّارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام: لتخفى أماكنها على الطّالبين. فأولئك أعلوا أنفسهم وزكّوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها، قال الشاعر:
وبوّأت بيتك في معلم ** رحيب المباءة والمسرح

كفيت العفاة طلاب القرى ** ونبح الكلاب لمستنبح

ترى دعس آثار تلك المطيّ ** أخاديد كاللّقم الأفيح

ولو كنت في نفق زائغ ** لكنت على الشّرك الأوضح

ومثل هذا كثير.
بصيرة في لا أقسم بيوم القيامة: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5)} [القيامة].
هذا ردّ من اللّه عليهم، وذلك أنهم ظنوا أن اللّه لا ينشر الموتى، ولا يقدر على جمع العظام البالية، فقال: بلى، فاعلموا أنّا نقدر على رد السّلاميات على صغرها، ونؤلّف بينها حتى يستوي البنان. ومن قدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر.
ومثل هذا رجل قلت له: أتراك تقدر على أن تؤلّف هذا الحنظل في خيط؟ فيقول لك: نعم وبين الخردل.
وأما قوله سبحانه: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ} فقد كثرت فيه التفاسير: فقال سعيد بن جبير يقول: سوف أتوب، سوف أتوب. وقال الكلبي: يكثر الذنوب، ويؤخّر التوبة. وقال آخرون: يتمنّى الخطيئة. وفيه قول آخر: على طريق الإمكان- إن كان اللّه تعالى أراده- وهو: أن يكون الفجور بمعنى: التكذيب بيوم القيامة، ومن كذّب بحق فقد فجر. وأصل الفجور: الميل، فقيل للكاذب والمكذّب والفاسق: فاجر لأنه مال عن الحق. وقال بعض الأعراب لعمر بن الخطاب رحمه اللّه- وكان أتاه فشكى إليه نقب إبله ودبرها واستحمله فلم يحمله-:
أقسم باللّه أبو حفص عمر ** ما مسّها من نقب ولا دبر

فاغفر له اللهمّ إن كان فجر أي: كذب. وهذا وجه حسن لأن الفجور اعتراض بين كلامين من أسباب يوم القيامة، أولهما: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ}؟ والآخر: {يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ} فكأنه قال: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه في الآخرة؟ بلى نقدر على أن نجمع ما صغر منها ونؤلف بينه. {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ} أي: ليكذّب بيوم القيامة وهو أمامه، فهو يسأل {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ} [القيامة: 6] أي متى يكون؟.
في والصافات: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28)} [الصافات: 27، 28].
يقول هذا المشركون يوم القيامة لقرنائهم من الشياطين: إنكم كنتم تأتوننا عن أيماننا، لأن إبليس قال: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] فشياطينهم تأتيهم من كل جهة من هذه الجهات بمعنى من الكيد والإضلال. وقال المفسرون: فمن أتاه الشيطان من جهة اليمين: أتاه من قبل الدّين فلبّس عليه الحق. ومن أتاه من جهة الشمال: أتاه من قبل الشّهوات. ومن أتاه من بين يديه: أتاه من قبل التّكذيب بيوم القيامة والثواب والعقاب. ومن أتاه من خلفه: خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلّف بعده، فلم يصل رحما، ولم يؤدّ زكاة. فقال المشركون لقرنائهم: إنكم كنتم تأتوننا في الدنيا من جهة الدّين، فتشبّهون علينا فيه حتى أضللتمونا. فقال لهم قرناؤهم: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات: 29] أي: لم تكونوا على حق فنشبّهه عليكم ونزيلكم عنه إلى باطل. {وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} [الصافات: 30]، أي: قدرة فنقهركم ونجبركم {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)} [الصافات: 30، 31] نحن وأنتم العذاب {فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32)} [الصافات: 32] يعني بالدعاء والوسوسة. ومثل هذا قوله سبحانه: {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22].
في سورة ص: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)} [ص].
أخبر اللّه، سبحانه، عن عنادهم وتكبّرهم وتمسّكهم بآلهتهم في أول السورة، فقال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ} [ص: 1]، وحكى قولهم: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]، أي اذهبوا ودعوه وتمسّكوا بآلهتكم فقال اللّه عز وجل: أعندهم بآلهتهم هذه خزائن الرحمة؟! {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10)} [ص] أي في أبواب السماء، وأبواب السماء: أسبابها، قال الشاعر:
ولو نال أسباب السّماء بسلّم

ويكون أيضا {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ}، أي: في الحبال إلى السماء، كما سألوك أن ترقى في السماء وتأتيهم بكتاب. ويقال للرجل إذا تقدم في العلم وغيره وبرع: قد ارتقى في الأسباب، كما يقال: قد بلغ السماء. ونحو هذا قوله في موضع آخر: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)} [الطور]. وهذا كله توبيخ، وتقرير بالعجز. ثم قال بعد: {جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)} [ص]. وجند بمعنى: حزب لهذه الآلهة. و ما زائدة. ومهزوم: مقموع ذليل. وأصل الهزم: الكسر، ومنه قيل للنّفرة في الأرض: هزمة، أي كسرة، وهزمت الجيش: أي كسرتهم، وتهزّمت القربة: أي انكسرت. يقول: هم حزب عند ذلك مقموع ذليل من الأحزاب، أي عند هذه المحن، وعند هذا القول، لأنهم لا يقدرون أن يدّعوا لآلهتهم شيئا من هذا، ولا لأنفسهم. والأحزاب: سائر من تقدّمهم من الكفار، سمّوا أحزابا لأنهم تحزّبوا على أنبيائهم.
يقول اللّه سبحانه على إثر هذا الكلام: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ} [ص:
12] وكذا وكذا. ثم قال: {أُولئِكَ الْأَحْزابُ} [ص: 13] فأعلمنا أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب. وكان ابن عباس في رواية أبي صالح- يذهب إلى أن اللّه تعالى أخبر رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أنه سيهزم المشركين يوم بدر.
في سورة السجدة: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة].
يريد سبحانه: أنه يقضي الأمر في السماء وينزله مع الملائكة إلى الأرض فتوقعه، ثم تعرج إلى السماء، أي تصعد، بما أوقعته من ذلك الأمر، فيكون نزولها به ورجوعها في يوم واحد مقداره ألف سنة مما تعدّون. يريد مقدار المسير فيه على قدر مسيرنا وعددنا ألف سنة، لأن بعد ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام لابن آدم، فإذا قطعته الملائكة، بادئة وعائدة في يوم واحد، فقد قطعت مسيرة ألف سنة في يوم واحد.
في سورة النمل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)} [النمل].
أصل ادّارك: تدارك، فأدغمت التاء في الدال، وأدخلت ألف الوصل ليسلم للدّال الأولى السكون، ومثله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعًا} [الأعراف: 38] {واثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]، {وقالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ} [النمل: 47]، إنما هو: تداركوا، وتثاقلتم، وتطيّرنا. ومعنى تدارك: تتابع، وعِلْمُهُمْ: حكمهم على الآخرة، وحدسهم الظّنون. وأراد وما يشعرون متى يبعثون إلّا بتتابع الظّنون في علم الآخرة، فهم يقولون تارة: إنها تكون، وتارة: إنها لا تكون، وإلى كذا تكون، وما يعلم غيب ذلك إلّا اللّه تعالى. ثم قال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بل هم من علمها عَمُونَ. وكان ابن عباس يقرؤها {بلى أدارك علمهم}. وهذه القراءة أشدّ إيضاحا للمعنى، لأنه قال: وما يشعرون متى يبعثون، ثم قال: بل تداركت ظنونهم في علم الآخرة، فهم يحدسون ولا يدرون.
في سورة الامتحان: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].
ذكر المفسرون: أنّها أنزلت في حاطب بن أبي بلتعة وكان كتب إلى المشركين بمكة يخبرهم بمسير الرسول، صلّى اللّه عليه وسلم إليهم، لأنّ عياله كانوا بمكة، ولم يكن له بها عشيرة تمنع منهم، فأراد أن يتقرب إليهم ليكفوا عن عياله فأنزل اللّه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} أي تخبرونهم بما يخبر بمثله الرجل أهل مودّته، وتنصحون لهم {وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}، مع النبي، صلّى اللّه عليه وسلم {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} تمّ الكلام، يعني من مكة {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ}، أي أخرجوا الرسول وأخرجوكم، لأن آمنتم باللّه وحده {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي}، يريد. فلا تلقوا إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي طالبين رضاي.
ثم قال: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ} [الممتحنة: 1]، أي كيف تستترون بمودّتكم لهم منّي وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟.
ثم ضرب لهم إبراهيم، صلّى اللّه عليه وسلم، مثلا حين تبرّأ من قومه ونابذهم وباغضهم، إلى قوله سبحانه: {وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا} [الممتحنة: 4]، يريد أنّ إبراهيم، صلّى اللّه عليه وسلم، عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه: {لأستغفرنّ لك}.
في سورة الحج: {مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)} [الحج: 15].
كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين، يستبطئون ما وعد اللّه ورسوله من النصر. وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون ألا يتم له أمره، فقال تعالى: {مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ}، يعني محمدا، عليه السلام، على مذاهب العرب في الإضمار لغير مذكور، وهو يسمعني أعده النصر والإظهار والتمكين، وإن كان يستعجل به قبل الوقت الذي قضيت أن يكون ذلك فيه، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} أي بحبل إِلَى السَّماءِ، يعني سقف البيت، وكلّ شيء علاك وأظلّك فهو سماء، والسحاب: سماء، يقول اللّه تعالى: {وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا} [ق: 9]، وقال سلامة بن جندل يذكر قتل كسرى النعمان:
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه ** نحور الفيول بعد بيت مسردق

يعني: سقفه، وذلك أنّه أدخله بيتا فيه فيلة فتوطّأته حتى قتلته.